مقالات
رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن عن روح الله وكلمته سيدنا عيسى عليه السلام

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن عن روح الله وكلمته سيدنا عيسى عليه السلام
بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الله تعالى كان ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، وخلق الجن والإنس؛ ليعبدوه وحده لا شريك له، ثم إن الشياطين أضلت الناس عن هذه الغاية العظمى التي من أجلها خُلقوا، وهي عبادة الله وحده ولا شريك له، فكانت دعوة الرسل سلام الله عليهم جميعًا لإنقاذ الناس من الشرك بالله جل وعلا ودعوتهم إلى توحيده، وطاعته عبادته: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36].
وإن مِنْ رسل الله الذين جاؤوا لهذه الغاية النبيلة، والمهمة العظيمة، فاصطفاه الله تعالى من بين خلقه عيسى ابن مريم بنت عمران روحُ الله وكلمته التي ألقاها إلى الصِّديقة الطاهرة العفيفة مريم عليهما السلام، آخر أنبياء بني إسرائيل سلام الله عليهم، فإن قصة الاصطفاء تبدأ من عمران أحد علماء بني إسرائيل وأخيارها، وكانت زوجته عقيمة وكانت زوجةً صالحة، فنذرت إنْ هي حملت لتجعلنَّ ولدها محرَّرًا لله تعالى خالصًا لخدمة بيت المقدس، فحملت بمريم عليها السلام؛ كما في سورة آل عمران: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: 35 – 37]، وبعد وفاة عمران أصبحت مريم في كفالة زكريا عليه السلام، زوج خالتها الذي اتخذ لها مكانًا في المسجد تعبُد الله فيه، ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].
وكان من كرامة الله لمريم عليها السلام أن الملائكة كانت تأتي إليها لها لتثبيتها وتهيئتها، وبيان اصطفائها على نساء العالمين: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43].
فكانت سلام الله عليها مِن خير نساء العالمين، عابدةً لربها، قانتة لخالقها، حافظة لفرجها؛ كما قال ربنا جل وعلا: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].
وقد بشرت الملائكة مريم الصديقة بأنه سيكون منها ولد ذو شأن ومكانة في الدنيا والآخرة، وبيَّنت لها من صفاته ما يثبتها ويهيئها؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46].
وعندما كانت مريم عليها السلام في يومٍ بعيدةً عن أهلها أرسل الله إليها جبريل عليه السلام على هيئة رجل سوي؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 16، 17]، ففزِعت منه: ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 18، 19]، فما كان منها إلا العجب والاستغراب: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ﴾ [مريم: 20 – 24]، المنادي جبريل على الأظهر: ﴿ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 24]؛ أي: نهرًا جاريًا، ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 25 – 26].
ثم ذكر الله جل وعلا لنا شيئًا مما حدث بعد ذلك، فقال تعالى: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ [مريم: 27]؛ أي: منكرًا عظيمًا، ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 28 – 33].
وعاش عيسى وأمه في منطقة قد هيئها الله لهما كرامةً منه وعناية ولطفًا، ذات مكان مرتفع، من صفاته أنه ذو قرار؛ أي: مكان مستو فيه الثمار وما يدعو للاستقرار فيه، ومعين؛ أي: ماء جار على وجه الأرض؛ كما وصف الله ذلك في كتابه: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50].
أما تحديد المكان، فمختلف فيه، فقيل: الرملة في فلسطين، وقيل: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وأيًّا يكن، فالله عز وجل قد اصطفاه وهيَّأه لمهمة عظيمة، فقد كان بنو إسرائيل في الضلال غارقين، وعن دعوة موسى عليه السلام منحرفين، فكان عيسى عليه السلام رسولًا إليهم مصدقًا لما بين يديهم، داعيًا إلى الحق وإلى صراط مستقيم؛ كما قال عز وجل عنه: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 50، 51].
وأيَّد الله عبده ورسوله عيسى سلام الله عليه بآيات باهرة، ومعجزات ظاهرة، تأييدًا وتصديقًا، وكما هو شأن بني إسرائيل مع رسلهم السابقين، فقد كذَّب عيسى أكثرُهم، وما آمن معه إلا قليل: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52].
إن عيسى سلام الله عليه رسول من عند الله قامت دعوته على توحيد الله، فالرسل جميعًا دعوا إلى ذلك: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، في رسالة عيسى التصديق بمن سبقه من الرسل وما نزل من الكتب: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ [آل عمران: 50].
وفي رسالته التبشير برسول يأتي من بعده يخلِّص الناس من الضلال: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6].
وفي رسالته الحكم بين الناس بما علَّمه الله من الحكمة: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [الزخرف: 63].
وفي رسالته نسخ بعض الأحكام الشرعية التي كانت قبله تخفيفًا: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [آل عمران: 50].
وفي رسالته لا وساطة بين الخالق والمخلوق في الدعاء والعبادة: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون ﴾ [التوبة: 31].
وفي رسالته القيام بالعبادات: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31].
وفي رسالته حسن المعاملة والأخلاق الفاضلة: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 31، 32].
وفي رسالته الرحمة لمن أرسل إليهم: ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21].
إن الله آتى عبده وسوله عيسى ابن مريم عليه وعلى أمِّه السلام الإنجيل، وليس هو أناجيل النصارى اليوم، فإنهم قد حرَّفوه وبدلوه، فصار أناجيلَ، لكنْ لا يمنع أنها فيها بعض من تعاليم عيسى عليه السلام وأقواله، ولكن إنجيلَ عيسى عليه السلام الحقَّ الذي نؤمن بأنه من عند الله، هو كتابٌ فيه هدى ونورٌ، ومصدق لما بين يديه من التوراة، وفيه موعظة للمتقين، وفيه أحكام وشرائع من رب العالمين، وفيه بشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكر بعض صفاته وصفات أصحابه صلى الله عليه وسلم، وفيه الحث على العبادة وعلى الجهاد بالنفس والمال، هكذا نعتقد في إنجيل عيسى عليه السلام.
ونعتقد أن الله أيَّد عيسى عليه السلام بمعجزات وآيات عظيمة، فقد كان زمانه زمان الطب، فجرت على يديه معجزات تناسب زمانه:
فكلامه في المهد مع أمه ومع قومه، يُعد من معجزاته، وكان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وكان يمسح على الأكمه – وهو مَن ولِد أعمى – فيبرئه بإذن الله، وكان يمسح على الأبرص فيشفيه بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، وكان ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
ومن معجزاته أن الله كفُّ بني إسرائيل عنه حين أرادوا قتله، وألقى شبهه على من دل على مكانه – كما قيل – ثم رفعه إليه.
وطلب الحواريون من رسول الله عيسى عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ ليأكلوا منها، ولتطمئن قلوبُهم بالإيمان، فدعا عيسى ربَّه، فأنزل عليه المائدة التي طلبوها.
ومع جميع هذه المعجزات – التي نص عليها القرآن الكريم في سورة المائدة وغيرها – إلا أن اليهود كدأبهم يكذبون، ويكيدون ويَمكرون، ويخططون ويدبرون للرسل وأتباعهم، فتعرَّض عيسى عليه السلام للتآمر الخفي المدبر مِن قِبَل اليهود والوثنية الرومانية؛ حفاظًا على سيادتهم، ووصل بهم الأمر إلى محاولة القبض عليه وصُلبه بتُهمة طلبه الملك، إلا أنَّ الله نَجَّاه مِن كيد الماكرين، فقال الله لعيسى عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 55].
وقال جل وعلا في شأن المؤامرة اليهودية على عيسى عليه السلام: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158].
فعيسى لم يُقتَل ولم يُصلَب هكذا نعتقد، بل رفعه الله إليه، وفي آخر الزمان ومن علامات الساعة نزوله، وعندما ينزل سيؤمن به أهل الكتاب قبل موته، فهو لم يمت بعدُ، سيؤمنون به الإيمان الحق – وليس على ما يعتقد النصارى فيه اليوم – ولهذا قال الله: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159].
سينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان فترة في الأرض، علامة على اقتراب الساعة، يحكم فيها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء حكَمًا عادلًا مقسطًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [الزخرف: 61].
وفي قراءة أخرى للآية: ﴿ وإنَّه لَعَلم للسَّاعَة ﴾؛ أي: إشارة ورمز للساعة.
وقد تواترت الأحاديث التي أخبرت عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده، ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها”، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 159].
ثم إن النصارى من بعد عيسى عليه السلام، قد مروا بمراحل وتآمر، وحرَّفوا وبدلوا دينه، وكثُر الوضع على رسول الله عيسى وأتْباعه، حتى تعدَّدت الأناجيل بشتى اللغات والأساليب على مر العصور، ونسبت هذه الأناجيل للحواريين الذين عاصروا عيسى عليه السلام، ودخل في دينهم من الآراء اليهودية والوثنية الشِّركية والفلسفات الظنية ما جعله بعيدًا كلَّ البعد عن المنهج الرباني والشريعة السماوية وعن المسيحية التي هي الإسلام دعوة عيسى عليه السلام، فأصبح علماؤهم وقادتهم الذين يزعمون أنهم أنصار المسيح وحملة دعوته أربابًا لعامة النصارى؛ كما قال تعالى شارحًا تلك الحالة المظلمة التي كانوا فيها: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
الوقفة الأولى: المسيحية غير النصرانية، فبينهما تباينٌ واسع وفرق شاسع، فالمسيحيَّة هي دين نبي الله عيسى عليه السلام وكتابهم الإنجيل، وأما النصرانية، فهي تلك التعاليم والأقوالُ المنسوبة إلى منِ ادَّعوا النُّصرة لتعاليم عيسى من بعده، ولذلك العقائد الضالة التي حَكَمَ عليْها تَعالَى بالكُفْرِ مَنسوبة إلى النصارى؛ كعقيدة الثالوث والألوهية، والبنوة، المسيحيون لا وجود لهم اليوم ولو وُجدوا لَما وسعهم إلا اتباع محمد بن عبدالله الذي بشَّر به نبي الله عيسى عليه السلام.
ومن لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد سماعه لدعوته، فهو من أهل النار، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به، إلا كان من أصحاب النار».
الوقفة الثانية: إن حقيقة دعوة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام هي الإسلام، ودينه الإسلام، والرسل كلهم دينُهم الإسلام، بِغَض النظَر عن شرائِعِهم ومنهاجِ كلٍّ في زَمَنِه، ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].
وفي الصحيحين عن حديث أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحدٌ».
الوقفة الثالثة: إننا لا نغالي في عيسى عليه السلام كما غالت النصارى، ولا نكذِّبه كما فعلت اليهود، ولا نقول فيه غير الحق، فهو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، كما ذكر تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171].
الوقفة الرابعة: إن عيسى عليه السلام خلقه الله من غير أبٍ، كما ذكر الله تعالى حين سألت مريم المبشر عن كيفية وجوده: ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21]، وإن هذا يوجب اعتقاد كمال قُدرة الله تعالى، يفعل ما يشاء كيف شاء، له الأمر كله، لا كالمخلوقات التي تتقيد بقانون الأسباب والمسببات، ولا يُسأل تعالى عمَّا يفعل، ونُسأل عما نفعل، أراده الله أن يكون رحمة وهداية للناس إلى الطريق المستقيم، وإخراجهم مما كانوا فيه من الزيغ والضلال.
وقد مثل اللهُ خَلْقَ عيسى بِخَلْق آدَمَ عليهما السلام، فقال جل وعز: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 59، 60].
فبدلًا من اتباع النصارى لعيسى عليه السلام، وتصديق ما جاء به، والاستجابة لدعوته، وإفراد الله سبحانه بالعبادة غالوا فيه حتى ضلُّوا وأضلوا، نعوذ بالله من الضلال.
وقد حذَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو في شخصه، كما غالت النصارى في عيسى عليه السلام، فقال: «لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله»؛ [ كما في صحيح البخاري ].
الوقفة الخامسة: إن الله جل وعلا قد حكم بكفر الفرق الثلاثة الكبرى التي اختلفت وضلت في حقيقة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وهم:
• من قال بالثالوث، وأن الله ثالث ثلاثة.
• ومن قال بأن الله هو عيسى ابن مريم.
• ومن قال بأن المسيح ابن الله؛ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
﴿ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 72 – 74].
ثم بيَّن الله تعالى لنا مؤكدًا حقيقة المسيح عيسى عليه السلام، فقال: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 75 – 77].
سيقف عيسى عليه السلام يوم القيامة أمام رب العالمين، فيسأله على رؤوس الأشهاد: ماذا قال لبني إسرائيل؛ ليُقيم الحجة على من غال فيه؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 116 – 118]

تم نسخ الرابط بنجاح!









