(ما تركت) قصة قصيرة للكاتب محمد مصطفى

728x90

728x90

عندما ادركنى الموت للمرة الثانية تركت اشيائا كانت معلقة بي وكنت متعلقا بها…
علبة سجائرى المستخدمة..ولاعة قديمة مستقرة بداخلها..محفظتى الجلدية التى تحوى ثلاث بطاقات بنكية..بطاقة الرقم القومي..بطاقة تموين لأربع أفراد.. كارنيه النادى..مبلغ الف ومائة وأربعون جنيه..وصورة قديمة تجمعنى بمريم مختبئة خلف البطاقات…
قطع ملابسي المغسولة معلقة على المنشر …كتب كثيرة تستقر بدولابي منها اثنان لن اكملهما.
برواز قديم ورثته عن ابي يحمل صورة عبد الناصر معلق على الحائط كرمز قومى للخيبة والأمل الغائب..بجوارها صورة لأبي نفسه مرتديا ملابس البحرية اثناء خدمته خلال حربي الاستنزاف واكتوبر..كان يعتز بعبد الناصر كما يعتز بنفسه باعتباره جزئا من تجربته وفارس جيله.
تركت بالثلاجة قطعة جبن ابيض وبيضتان ..علبة مربي..زجاجتى مياة.. وست زجاجات بيرة ستلا ادخرتها لسهرة مرتقبة مع جيحي..جيجي تعشق الستلا وانا اعشق قبلات جيجي حين تثمل… ستفوتها تلك الزجاجات وسيفوتنى لهاث شفتيها على وجهى.
تركت عشيقتين وزوجة بائسة..حولها اهمالى وخيانتى للعنة متحركة…هجرتني منذ سنتين لحسن حظها وحظى..لو استمرت فى معاشرتى لفقدت ما تبقي من عقلها وأنوثتها وفقدت ما بقي من شبابي..وفرت طاقتى لاخريات فاستنفذت طاقتها وصباها..ففارقت بلا معروف.
تركت سجادة صلاة استخدمها فى الكى عادة ومصحف غير مطروق..فاتتنى فروض لن اعوضها ونوايا طيبة لن انفذها وعهود لن اوفيها..لست نادما على ذلك..لست نادما الا على تلك الشهوات الحلوة التى لم اشبعها والرائعات اللاتي لم التقيهن..
تركت لحظات لن تعود مع ناهد عندما أصرت على دخول السينما..اراحت راسها على كتفى…استكانت وتثنت والتوت ومالت والتصقت ويكت وضحكت..ناهد تمتلك اجمل ضحكة بالوجود….الهوى سلطان..(اصل التفاصيل أجمل بكتير بوجودك فيها)…اعتصرت يدها يدى وهمست فى اذنى بكلمات لم اتبينها كتعويذة غير مفهومة ذات تاثير سحري…تنهدت بحرارة فغمرتنى رائحتها الذكية مشعلة النار فى حواسي ومشاعرى…فانسجمنا وارتبطنا للأبد..فأصبحت جزئا منها وهى جزء منى..
قصة حب لم تكتمل.. وهل ثمة قصة حب مكتملة؟ تغير كل ما بعدها فلم تعد اية تفاصيل تحدث الا( بوجودها فيها) .. خانتها عيناى وبغيابي ستجتر المها شوقا وعشقا وخيبة..
ثم تنسي.
تركت مكتبي خاليا لمن سيخلفنى..بعد كل تلك السنوات والمعارك التافهه لن يبق منى سوى لافتة بعد قليل ستجد طريقها لسلة المهملات..كل هذا الضغط والانفعال والأرقام والحوارات تهاوت إلى لاشئ..وكأنها لم تكن.. وكأنى لم أكن.. ترس سيستبدل بترس جديد ..واصير نسيا..لا يزعجنى ذلك بالمرة..ما أهمية كل ذلك فى مسار الكون؟
تركت طفلين لن يتذكرا وجهى الا من صور صماء ولن يشعرا كم احبهما وانهما اخر ما مر بذهنى قبل مفارقتى العالم..هما امتدادى ان كان لذلك معنى و اثري الباقى فى وهم الخلود والدليل على اننى قد مررت يوما بتلك الحياة..
تركت كل شئ..الخوف والقلق والالم والامل والرغبة والتعلق والحب والكراهية والنهم والهم والحزن والفرح..وحصوة فى الكلي لم يتثن لها ان تشفى او تتطور لتقضي على..صداع مزمن بفعل الجيوب الأنفية ..حذاء جديد لم ارتديه ..الكاميرات التى تترصدنى فى كل الاماكن..قصة بدأتها و لم أكملها…صفحة منسية على الشبكة…احلام لن تتحقق….
جرح مريم..
وتفاصيل ناهد المدهشة الحميمة..
تركت نسبية الخير والشر..تساويا عدما..وسددت ديني للحياة بالرحيل.